فصل: (فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِرْثِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِرْثِ):

(وَمَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى دَارٍ أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ أَعَارَهَا أَوْ أَوْدَعَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَلَا يُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ) وَأَصْلُهُ أَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ مِلْكُ الْمُورَثِ لَا يَقْضِي بِهِ لِلْوَارِثِ حَتَّى يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
هُوَ يَقول: إنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ مِلْكُ الْمُورَثِ فَصَارَتْ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِلْمُورَثِ شَهَادَةٌ بِهِ لِلْوَارِثِ، وَهُمَا يَقولانِ: إنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ مُتَجَدِّدٌ فِي حَقِّ الْعَيْنِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ فِي الْجَارِيَةِ الْمَوْرُوثَةِ، وَيَحِلُّ لِلْوَارِثِ الْغَنِيِّ مَا كَانَ صَدَقَةً عَلَى الْمُورَثِ الْفَقِيرِ فَلَا بُدَّ مِنْ النَّقْلِ، إلَّا أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالشَّهَادَةِ عَلَى قِيَامِ مِلْكِ الْمُورَثِ وَقْتَ الْمَوْتِ لِثُبُوتِ الِانْتِقَالِ ضَرُورَةً، وَكَذَا عَلَى قِيَامِ يَدِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَقَدْ وُجِدَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْيَدِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُودَعِ وَالْمُسْتَأْجِرِ قَائِمَةٌ مَقَامَ يَدِهِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ الْجَرِّ وَالنَّقْلِ (وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ فُلَانٍ مَاتَ وَهِيَ فِي يَدِهِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ) لِأَنَّ الْأَيْدِي عِنْدَ الْمَوْتِ تَنْقَلِبُ يَدَ مِلْكٍ بِوَاسِطَةِ الضَّمَانِ وَالْأَمَانَةُ تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِالتَّجْهِيلِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى قِيَامِ مِلْكِهِ وَقْتَ الْمَوْتِ (وَإِنْ قَالُوا لِرَجُلٍ حَيٍّ نَشْهَدُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعِي مُنْذُ شَهْرٍ لَمْ تُقْبَلْ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْيَدَ مَقْصُودَةٌ كَالْمِلْكِ؛ وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكَهُ تُقْبَلُ فَكَذَا هَذَا صَارَ كَمَا إذَا شَهِدُوا بِالْأَخْذِ مِنْ الْمُدَّعِي.
وَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ قولهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ قَامَتْ بِمَجْهُولٍ لِأَنَّ الْيَدَ مُنْقَضِيَةٌ وَهِيَ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى مِلْكٍ وَأَمَانَةٍ وَضَمَانٍ فَتَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِإِعَادَةِ الْمَجْهُولِ، بِخِلَافِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ، وَبِخِلَافِ الْآخِذِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وَحُكْمُهُ مَعْلُومٌ وَهُوَ وُجُوبُ الرَّدِّ، وَلِأَنَّ يَدَ ذِي الْيَدِ مُعَايِنٌ وَيَدُ الْمُدَّعِي مَشْهُودٌ بِهِ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ (وَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُفِعَتْ إلَى الْمُدَّعِي) لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ (وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعِي دُفِعَتْ إلَيْهِ) لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ هَاهُنَا الْإِقْرَارُ وَهُوَ مَعْلُومٌ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِرْثِ):
وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ تَعْقِيبِ الشَّهَادَةِ بِمِلْكٍ مُتَجَدِّدٍ لِحَيٍّ عَنْ مَيِّتٍ عَلَى الشَّهَادَةِ بِمِلْكٍ يَتَجَدَّدُ لِحَيٍّ عَنْ حَيٍّ ظَاهِرٌ.
قولهُ: (وَمَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً إلَخْ) اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي أَنَّهُ هَلْ يَتَوَقَّفُ الْقَضَاءُ لِلْوَارِثِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ عَلَى الْجَرِّ وَالنَّقْلِ وَهُوَ أَنْ يَقول الشُّهُودُ فِي شَهَادَتِهِمْ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لِهَذَا الْمُدَّعِي.
فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ نَعَمْ.
وَجْهُ قول أَبِي يُوسُفَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقولهِ (هُوَ يَقول مِلْكُ الْمُورَثِ مِلْكُ الْوَارِثِ) لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِلْكَهُ خِلَافَةً، وَلِهَذَا يُخَاصِمُ وَيَرُدُّ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ وَيَصِيرُ مَغْرُورًا إذَا كَانَ الْمُورَثُ مَغْرُورًا، فَالشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِلْمُورَثِ شَهَادَةٌ بِهِ لَهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَمْرٍ زَائِدٍ يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ بِهِ لَهُ، وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا مَحَلُّ الْخِلَافِ وَهُوَ شَهَادَتُهُمْ أَنَّهُ كَانَ مِلْكَ الْمَيِّتِ بِلَا زِيَادَةٍ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهَا لِأَبِيهِ لَا تُقْبَلُ ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ بِلَا ذِكْرِ خِلَافٍ؛ فَقِيلَ تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ بِالِاتِّفَاقِ (وَهُمَا يَقولانِ مِلْكُ الْوَارِثِ مِلْكٌ مُتَجَدِّدٌ فِي الْعَيْنِ حَتَّى وَجَبَ عَلَى الْوَارِثِ اسْتِبْرَاءُ الْجَارِيَةِ الْمَوْرُوثَةِ، وَيَحِلُّ لِلْوَارِثِ الْغَنِيِّ مَا كَانَ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمُورَثِ الْفَقِيرِ) وَلَوْ زَكَاةَ أَوْ كَفَّارَةَ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِمَا الْجَرَّ وَالِانْتِقَالَ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ ذَلِكَ نَصًّا بَلْ إمَّا نَصًّا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قولهِمْ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ أَوْ شَهِدَا بِالْمِلْكِ لِلْمُورَثِ عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَهُوَ الْيَدُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَتَجَدُّدُ مِلْكِ الْوَارِثِ غَيْرُ لَازِمٍ شَرْعِيٍّ لِمَا شَهِدُوا بِهِ بَلْ لَازِمٌ لِقِيَامِهِ حَالَ الْمَوْتِ.
إذَا عُرِفَ هَذَا فَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ اتِّفَاقِيَّةٌ، وَهِيَ قولهُ: وَمَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى دَارٍ أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ أَعَارَهَا أَوْ أَوْدَعَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَلَا يُكَلَّفُ لِلْبَيِّنَةِ أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ.
أَمَّا عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى قولهِمَا فَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَقْتَ الْمَوْتِ أَوْ الْيَدِ وَقْتَ الْمَوْتِ تَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ، وَقَدْ وُجِدَ الثَّانِي فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْيَدَ عِنْدَ الْمَوْتِ حَيْثُ شَهِدَ أَنَّهَا مُعَارَةٌ مِنْهُ أَوْ مُودَعَةٌ عِنْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُودَعِ وَالْمُسْتَأْجِرِ كَيَدِ الْمُعِيرِ وَأَخَوَيْهِ، وَقَدْ طُولِبَا بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَمَا إذَا شَهِدَا لِمُدَّعِي مِلْكِ عَيْنٍ فِي يَدِ رَجُلٍ بِأَنَّهَا كَانَتْ مِلْكَ الْمُدَّعِي أَوْ أَنَّهُ كَانَ مَلَكَهَا حَيْثُ يَقْضِي بِهَا وَإِنْ لَمْ يَشْهَدَا أَنَّهَا مِلْكُهُ إلَى الْآنَ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَا لِمُدَّعِي عَيْنٍ فِي يَدِ إنْسَانٍ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ وَلَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَذُو الْيَدِ يُنْكِرُ مِلْكَ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ عَلَى مِلْكِهِ، فَإِذَا شَهِدَا بِمِلْكِهِ قُضِيَ لِلْمُشْتَرِي بِهِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّا عَلَى أَنَّهَا مِلْكُهُ يَوْمَ الْبَيْعِ، وَهَذِهِ أَشْبَهُ بِمَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ الشِّرَاءِ وَالْإِرْثِ يُوجِبُ تَجَدُّدَ الْمِلْكِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُمَا إذَا لَمْ يَنُصَّا عَلَى ثُبُوتِ مِلْكِهِ حَالَةَ الْمَوْتِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالِاسْتِصْحَابِ وَالثَّابِتُ بِهِ بِحُجَّةٍ لِإِبْقَاءِ الثَّابِتِ لَا لِإِثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ وَهُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْوَارِثِ، بِخِلَافِ مُدَّعِي الْعَيْنِ فَإِنَّ الثَّابِتَ بِالِاسْتِصْحَابِ بَقَاءُ مِلْكِهِ لَا تَجَدُّدُهُ، وَبِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الشِّرَاءِ فَإِنَّ الْمِلْكَ مُضَافٌ إلَيْهِ لَا إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ لِثُبُوتِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي مِنْ بَقَائِهِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ آخِرُهُمَا وُجُودًا وَهُوَ سَبَبٌ مَوْضُوعٌ لِلْمِلْكِ حَتَّى لَا يَتَحَقَّقُ لَوْ لَمْ يُوجِبْهُ فَيَكُونُ مُضَافًا إلَى الشِّرَاءِ وَهُوَ ثَابِتٌ بِالْبَيِّنَةِ.
أَمَّا هُنَا فَثُبُوتُ مِلْكِ الْوَارِثِ مُضَافٌ إلَى كَوْنِ الْمَالِ مِلْكًا لِلْمَيِّتِ وَقْتَ الْمَوْتِ لَا إلَى الْمَوْتِ لِأَنَّهُ لَيْسَ سَبَبًا مَوْضُوعًا لِلْمِلْكِ بَلْ عِنْدَهُ يَثْبُتُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَارِغٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
هَذَا إذَا شَهِدَا أَنَّهَا كَانَتْ مُعَارَةً أَوْ مُودَعَةً (فَلَوْ شَهِدَا أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ أَبِيهِ مَاتَ وَهِيَ فِي يَدِهِ وَالْأَبُ) هُوَ الْمُرَادُ بِلَفْظِ فُلَانٍ فِي قول الْمُصَنِّفِ إنَّهُمَا كَانَتْ فِي يَدِ فُلَانٍ: يَعْنِي أَبَا الْوَارِثِ الْمُدَّعِي جَازَتْ الشَّهَادَةُ فَيَقْضِي بِالدَّارِ لِلْوَارِثِ لِإِثْبَاتِهِمَا الْيَدَ لِلْمَيِّتِ إلَى حِينِ الْمَوْتِ، وَبِذَلِكَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ لِأَنَّ الْيَدَ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ إلَى يَدِ عَصَبٍ وَأَمَانَةٍ وَمِلْكٍ، فَإِنَّهَا عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ تَصِيرُ يَدَ مِلْكٍ، لِمَا عُرِفَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْغَاصِبِ وَالْمُودَعِ إذَا مَاتَ مُجْهَلًا يَصِيرُ الْمَغْصُوبُ الْوَدِيعَةُ مِلْكَهُ لِصَيْرُورَتِهِ مَضْمُونًا عَلَيْهِ شَرْعًا، وَلَا يَجْتَمِعُ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكِ مَالِكِ الْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا مَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّ أَبَاهُ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ وَمَاتَ فِيهَا أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِيهَا حَتَّى مَاتَ، أَوْ أَنَّهُ مَاتَ فِيهَا أَوْ أَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى هَذَا الْبِسَاطِ أَوْ نَائِمٌ عَلَى هَذَا الْفِرَاشِ، أَوْ أَنَّهُ مَاتَ وَهَذَا الثَّوْبُ مَوْضُوعٌ عَلَى رَأْسِهِ لَا تُقْبَلُ حَتَّى لَا يَسْتَحِقَّ الْوَارِثُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهَا تُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُورَثِ قَبْلَ الْمَوْتِ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ بِقولهِ بِوَاسِطَةِ الضَّمَانِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَيْسَتْ مُوجِبَةً لِلضَّمَانِ.
قَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ: لَا تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَى الْمَحَلِّ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى لَا يَصِيرَ غَاصِبًا وَلَا يَصِيرَ ذُو الْيَدِ مُقِرًّا بِذَلِكَ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ بِالرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ وَاللُّبْسِ فَإِنَّ الْيَدَ تَثْبُتُ بِهَا وَيَصِيرُ بِهَا غَاصِبًا.
هَذَا إذَا شَهِدَ كَذَلِكَ لِمَيِّتٍ، فَلَوْ شَهِدَا لِحَيٍّ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ رَجُلٍ كَذَلِكَ: أَيْ شَهِدَا أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ هَذَا الْمُدَّعِي مُنْذُ شَهْرٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ لَمْ يَذْكُرَا وَقْتًا، فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ هِيَ كَاَلَّتِي لِلْمَيِّتِ فَيَقْضِي لِلْمُدَّعِي بِالْعَيْنِ الْمَذْكُورَةِ.
وَقَالَا: لَا يَقْضِي بِهَا لِلْمُدَّعِي بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ.
لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْيَدَ مَقْصُودَةٌ كَالْمِلْكِ، وَلَوْ شَهِدَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكًا لِلْمُدَّعِي تُقْبَلُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي الْفُرُوعِ اسْتِصْحَابًا لِمِلْكِهِ إلَى وَقْتِ الدَّعْوَى كَذَا هُنَا اسْتِصْحَابًا لِيَدِهِ إلَى وَقْتِ الدَّعْوَى وَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْهُ يَقْضِي بِالرَّدِّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ مِنْ قول أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ وَجْهُ قولهِمَا إنَّ الشَّهَادَةَ مَعَ كَوْنِهَا بِيَدِهِ مُنْقَضِيَةً شَهَادَةً بِمَجْهُولٍ لِأَنَّ الْيَدَ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى مِلْكٍ وَأَمَانَةٍ وَضَمَانٍ، وَلَمْ يَلْزَمْ أَحَدُهَا بِعَيْنِهِ لِتَرْتَفِعَ الْجَهَالَةُ فَتَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ لِتَعَذُّرِ الْقَضَاءِ بِمَجْهُولٍ، بِخِلَافِ مِثْلِهَا فِي الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ لَزِمَ أَحَدَهَا بِعَيْنِهِ بِالْمَوْتِ وَهُوَ يَدُ الْمِلْكِ فَأَمْكَنَ الْقَضَاءُ، وَبِخِلَافِ الْأَخْذِ فَإِنَّ لَهُ مُوجِبًا مَعْلُومًا وَهُوَ الرَّدُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَخْذٌ إلَى أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ ثُبُوتُ أَنَّهُ أَخَذَ حَقَّهُ.
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ فَيَقْضِيَ بِهِ» وَأَيْضًا الْيَدُ مُعَايِنٌ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَدُ الْمُدَّعِي مَشْهُودٌ بِهِ مُخْبَرٌ عَنْهُ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ فَيَتَرَجَّحُ قول الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا يَقْضِي بِهِ لِلْمُدَّعِي.
وَاسْتَشْكَلَ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ مَعَ ذِي الْيَدِ، وَكَذَا بِبَيِّنَةِ مُدَّعِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ مَعَ ذِي الْيَدِ حَيْثُ تَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ وَمُدَعِّي الْمِلْكِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مُسَلَّمٌ فِيمَا لَا يَتَنَوَّعُ كَبَيِّنَةِ الْخَارِجِ وَمُدَّعِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ بِخِلَافِ مَا يَتَنَوَّعُ.
وَهَذَا الْجَوَابُ حَاصِلُهُ أَنَّ الْمُعَايَنَةَ كَانَتْ تُقَدَّمُ لَوْ لَمْ تَلْزَمْ الْجَهَالَةُ فِي الْمَقْضِيِّ وَهُوَ فِي التَّحْقِيقِ يَصِيرُ إلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَيَبْطُلُ اسْتِقْلَالُ الثَّانِي بِتَأَمُّلٍ يَسِيرٍ.
قولهُ: (وَإِنْ أَقَرَّ إلَخْ) يَعْنِي لَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالدَّارِ الَّتِي فِي يَدِهِ هَذِهِ الدَّارُ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعِي دُفِعَتْ لِلْمُدَّعِي، وَإِنْ كَانَتْ الْيَدُ مُتَنَوِّعَةً لِأَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ جَهَالَةٌ فِي الْمُقَرِّ بِهِ وَهِيَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بَلْ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ بِالْبَيَانِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ صَحَّ وَيُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَقَرَّ بِأَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعِي تُقْبَلُ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ الْإِقْرَارُ وَهُوَ مَعْلُومٌ، وَإِنَّمَا الْجَهَالَةُ فِي الْمُقَرِّ بِهِ وَهِيَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَضَاءِ، كَمَا لَوْ ادَّعَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَشَهِدَا عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ شَيْئًا جَازَتْ وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ.
تَتِمَّةٌ:
شَرْطُ الشَّهَادَةِ بِالْإِرْثِ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ كَانَ لِمُورَثِهِ، فَلَوْ قَالُوا إنَّهُ لِمُورَثِهِ تَقَدَّمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: لَا يَصِحُّ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا، لِأَنَّ الْمُورَثَ إنْ كَانَ حَيًّا فَالْمُدَّعِي لَيْسَ خَصْمًا، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَإِثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْمَيِّتِ حَالًّا مُحَالٌ وَتَقَدَّمَ قول بَعْضِهِمْ إنَّهَا تَصِحُّ عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ لِأَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ الشَّاهِدَ لَمْ يُرِدْ هَذَا الْمَعْنَى بَلْ مَلَكَهُ حَالَ حَيَاتِهِ فَكَانَ كَالْأَوَّلِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُدْرِكَ الشُّهُودُ الْمَيِّتَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمِلْكِ لَا تَجُوزُ بِالتَّسَامُعِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنُوا جِهَةَ الِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى لَوْ قَالُوا أَخُوهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ لَا تُقْبَلُ مَا لَمْ يَقولوا لِأَبِيهِ أَوْ لِأُمِّهِ أَوْ لَهُمَا لِأَنَّ الْإِرْثَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجِهَاتِ، وَكَذَا لَوْ قَالُوا كَانَ لِجَدِّهِ وَلَمْ يَقولوا مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لِأَبِيهِ ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ أَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّةِ غَيْرَ أَنَّهُ يُسْأَلُ الْبَيِّنَةَ عَنْ عَدَدِ الْوَرَثَةِ لِلْقَضَاءِ.
وَإِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ لِمُورَثِهِ تَرَكَهُ مِيرَاثًا لَهُ وَلَمْ يَقولوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا سِوَاهُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرِثُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ لَا يَقْضِي لِاحْتِمَالِ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ أَوْ يَرِثُ عَلَى كُلِّ حَالٍ يُحْتَاطُ لِلْقَاضِي وَيَنْتَظِرُ مُدَّةً هَلْ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ أَمْ لَا ثُمَّ يَقْضِي بِكُلِّهِ، وَإِنْ كَانَ نَصِيبُهُ يَخْتَلِفُ فِي الْأَحْوَالِ يَقْضِي بِالْأَقَلِّ؛ فَيَقْضِي فِي الزَّوْجِ بِالرُّبْعِ وَالزَّوْجَةِ بِالثُّمُنِ إلَّا أَنْ يَقولوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَقْضِي بِالْأَكْثَرِ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَلَيْسَ الْأَصْلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ وَيَأْخُذُ الْقَاضِي كَفِيلًا عِنْدَهُمَا لَا عِنْدَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَلَوْ قَالُوا:
لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا بِهَذَا الْمَوْضِعِ كَفَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا.
فُرُوعٌ:
إذَا شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّ هَذَا وَارِثُ فُلَانٍ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ وَلَمْ يَذْكُرَا سَبَبًا يَرِثُ بِهِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ حَتَّى يُبَيِّنَا سَبَبَ الْإِرْثِ، وَكَذَا إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ أَخُوهُ أَوْ عَمُّهُ أَوْ ابْنُ عَمِّهِ أَوْ جَدُّهُ أَوْ جَدَّتُهُ لَا تُقْبَلُ حَتَّى يُبَيِّنَا طَرِيقَ الْأُخُوَّةِ وَالْعُمُومَةِ: أَيْ يُبَيِّنَا الْأَسْبَابَ الْمُوَرِّثَةَ لِلْمَيِّتِ أَنَّهُ لِأَبٍ أَوْ شَقِيقٌ وَيَنْسُبَا الْمَيِّتَ وَالْوَارِثَ حَتَّى يَلْتَقِيَا إلَى أَبٍ وَاحِدٍ، وَيَذْكُرُ أَيْضًا أَنَّهُ وَارِثُهُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ قولهُ إرْثُهُ فِي الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْوَلَدِ؟ قِيلَ يُشْتَرَطُ وَالْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قولهُ وَارِثُهُ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ لَا يُحْجَبُ بِحَالٍ لَا يُشْتَرَطُ قولهُ وَارِثُهُ.
وَفِي الشَّهَادَةِ بِأَنَّهُ ابْنُ ابْنِ الْمَيِّتِ أَوْ بِنْتُ ابْنِهِ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ.
وَفِي الشَّهَادَةِ أَنَّهُ مَوْلَاهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ اسْمِ أَبٍ الْمَيِّتِ، حَتَّى لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ جَدُّ الْمَيِّتِ أَبُو أَبِيهِ وَوَارِثُهُ وَلَمْ يُسَمُّوا أَبَا الْمَيِّتِ قُبِلَتْ.
وَفِي الْأَقْضِيَةِ شَهِدَا أَنَّهُ جَدُّ الْمَيِّتِ وَقَضَى لَهُ بِهِ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ وَادَّعَى أَنَّهُ أَبُو الْمَيِّتِ وَبَرْهَنَ فَالثَّانِي أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَخُو الْمَيِّتِ وَوَارِثُهُ فَقَضَى بِهِ ثُمَّ شَهِدَ هَذَانِ عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ لَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ بَلْ يَضْمَنَانِ لِلِابْنِ مَا أَخَذَ الْأَوَّلُ مِنْ الْإِرْثِ، وَلَوْ شَهِدَ آخَرَانِ أَنَّ الثَّانِيَ ابْنُ الْمَيِّتِ تُقْبَلُ.
وَفِي الزِّيَادَاتِ: شَهِدَا أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ قَضَى بِأَنَّ هَذَا وَارِثٌ فَلِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَالْقَاضِي يَحْتَاطُ وَيَسْأَلُ الْمُدَّعِي عَنْ نَسَبِهِ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ أَمْضَى الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ لِعَدَمِ الْمُنَازِعِ فِي الْحَالِ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ وَارِثُهُ، فَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ الْأَوَّلِ قَضَى لِلثَّانِي، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ مِنْهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وَإِنْ زَاحَمَهُ بِأَنْ كَانَ مَثَلًا الْأَوَّلُ ابْنًا وَالثَّانِي أَبًا قَضَى بِالْمِيرَاثِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِمَا.

.(بَابٌ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ):

قَالَ: (الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَقٍّ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، إذْ شَاهِدُ الْأَصْلِ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِبَعْضِ الْعَوَارِضِ، فَلَوْ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ أَدَّى إلَى إتْوَاءِ الْحُقُوقِ، وَلِهَذَا جَوَّزْنَا الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ، إلَّا أَنَّ فِيهَا شُبْهَةً مِنْ حَيْثُ الْبَدَلِيَّةُ أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهَا زِيَادَةَ احْتِمَالٍ، وَقَدْ أَمْكَنَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِجِنْسِ الشُّهُودِ فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.
الشَّرْحُ:
(بَابٌ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ.
قولهُ: (الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ) جَائِزَةٌ فِي كُلِّ (حَقٍّ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ) فَخَرَجَ مَا لَا يَثْبُتُ مَعَهَا وَهُوَ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ.
فَأَمَّا التَّعْزِيرُ فَفِي الْأَجْنَاسِ مِنْ نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ: يَجُوزُ فِي التَّعْزِيرِ الْعَفْوُ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ.
وَنَصَّ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ عَلَى أَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لَا تَجُوزُ فِيهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ جَائِزَةٌ فِي الْأَقَارِيرِ وَالْحُقُوقِ وَأَقْضِيَةِ الْقُضَاةِ وَكُتُبِهِمْ وَكُلِّ شَيْءٍ إلَّا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ، وَبِقولنَا هَذَا قَالَ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قول، وَأَصَحُّ قوليْهِ وَهُوَ قول مَالِكٍ: تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ أَيْضًا لِأَنَّ الْفُرُوعَ عُدُولٌ، وَقَدْ نَقَلُوا شَهَادَةَ الْأُصُولِ فَالْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ لَا بِشَهَادَتِهِمْ وَصَارُوا كَالْمُتَرْجِمِ وَسَيَنْدَفِعُ.
قولهُ: (وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ) أَيْ جَوَازُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَجَبَتْ عَلَى الْأَصْلِ وَلَيْسَتْ بِحَقٍّ لِلْمَشْهُودِ لَهُ حَتَّى لَا تَجُوزَ الْخُصُومَةُ فِيهَا وَالْإِجْبَارُ عَلَيْهَا.
وَالنِّيَابَةُ فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّ كَوْنَ قول إنْسَانٍ يَنْفُذُ عَلَى مِثْلِهِ وَيَلْزَمُهُ مَا نَسَبَهُ إلَيْهِ وَهُوَ يَنْفِيهِ وَيَبْرَأُ مِنْهُ إنَّمَا عُرِفَ حُجَّةً شَرْعًا عِنْدَ قَدْرٍ مِنْ احْتِمَالِ الْكَذِبِ وَهُوَ مَا فِي شَهَادَةِ الْأُصُولِ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ مِنْ الْكَذِبِ وَالسَّهْوِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً كَذَلِكَ عِنْدَ زِيَادَةِ الِاحْتِمَالِ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ الثَّابِتُ ضَعْفَ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ وَهُوَ فِي شَهَادَةِ الْفَرْعَيْنِ وَإِنْ اخْتَلَفَ مَحَلُّ الْأَدَاءِ، لِأَنَّ مَحَلَّهُ فِي الْأَصْلَيْنِ فِي إثْبَاتِ حَقِّ الْمُدَّعِي وَفِي الْفَرْعَيْنِ مَا يَشْهَدَانِ بِهِ مِنْ شَهَادَةِ الْأَصْلَيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى الْحَقِّ الْمُدَّعَى بِهِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الشَّاهِدُ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ الْأَدَاءِ لِمَوْتِهِ أَوْ لِغَيْبَتِهِ أَوْ مَرَضِهِ فَيَضِيعُ الْحَقُّ أَثْبَتَهَا أَهْلُ الْإِجْمَاعِ صِيَانَةً لِحُقُوقِ النَّاسِ.
لَا يُقَالُ: يُسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ بِجِنْسِ الشُّهُودِ بِأَنْ يُسْتَشْهَدَ عَلَى كُلِّ حَقٍّ عَشَرَةٌ مَثَلًا فَيَبْعُدُ مَوْتُ الْكُلِّ قَبْلَ دَعْوَى الْمُدَّعِي.
لِأَنَّا نَقول: الْمُدَّعِي جَازَ كَوْنُهُ وَارِثَ وَارِثِ صَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى مِثْلِهِ، وَقَدْ انْقَرَضَ الْكُلُّ فَالْحَاجَةُ مُتَحَقِّقَةٌ إلَيْهَا، وَلَمَّا كَانَتْ الْحُقُوقُ مِنْهَا مَا يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ وَمِنْهَا مَا أَوْجَبَ الشَّرْعُ الِاحْتِيَاطَ فِي دَرْئِهِ وَهُوَ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ لَوْ أَجَزْنَا فِيهَا الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَعَ ثُبُوتِ ضَعْفِ احْتِمَالِ الْكَذِبِ كَانَ خِلَافًا لِلشَّرْعِ وَالْمُصَنِّفُ عَلَّلَ بِهَذَا وَبِمَا فِيهَا مِنْ شُبْهَةِ الْبَدَلِيَّةِ، فَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ بَدَلًا لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ أَصْلٍ مَعَ فَرَعَيْنَ، إذْ الْبَدَلُ لَا يُجَامِعُ الْأَصْلَ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْبَدَلِيَّةَ هُنَا بِحَسَبِ الْمَشْهُودِ بِهِ، فَإِنَّا عَلِمْنَا بِثُبُوتِ الْمَشْهُودِ بِهِ لِلْأُصُولِ فِيهِ شُبْهَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَبِالشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَتِهِمْ تَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ أُخْرَى لَا بِحَسَبِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ عِيَانٌ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، وَبَعْدَ تَحَمُّلِهِ يَرُدُّهُ إلَى التَّعْلِيلِ الْآخَرِ وَهُوَ كَثْرَةُ الِاحْتِمَالِ بِتَأَمُّلٍ يَسِيرٍ فَلَا يَكُونَانِ تَعْلِيلَيْنِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، لَا جَرَمَ أَنَّ أَصْلَ السُّؤَالِ غَيْرُ وَارِدٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرِدُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَدَلِيَّةِ وَالْمُصَنِّفُ إنَّمَا قَالَ فِيهِ شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ لَا حَقِيقَتُهَا.
فَإِنْ قِيلَ: ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَوْ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ أَنَّ قَاضِي بَلَدِ كَذَا حَدَّ فُلَانًا فِي قَذْفٍ تُقْبَلُ حَتَّى تَرِدَ شَهَادَةُ فُلَانٍ.
أُجِيبَ بِأَنْ لَا نَقْضَ، فَإِنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ فِعْلُ الْقَاضِي وَهُوَ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ الشَّهَادَةُ بِوُقُوعِ أَسْبَابِهَا الْمُوجِبَةِ لَهَا، فَأَوْرَدَ أَنَّ فِعْلَ الْقَاضِي مُوجِبٌ لِرَدِّهَا وَرَدُّهَا مِنْ حَدِّهِ فَهُوَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ.
أُجِيبَ بِالْمَنْعِ بَلْ الْمُوجِبُ لِرَدِّهَا إنْ كَانَ مِنْ حَدِّهِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَاَلَّذِي يُوجِبُهُ هُوَ الْقَذْفُ نَفْسُهُ عَلَى أَنَّ فِي الْمُحِيطِ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ.

متن الهداية:
(وَتَجُوزُ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ إلَّا الْأَرْبَعُ عَلَى كُلِّ أَصْلٍ اثْنَانِ لِأَنَّ كُلَّ شَاهِدَيْنِ قَائِمَانِ مَقَامَ شَاهِدٍ وَاحِدٍ فَصَارَا كَالْمَرْأَتَيْنِ وَلَنَا قول عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، وَلِأَنَّ نَقْلَ شَهَادَةِ الْأَصْلِ مِنْ الْحُقُوقِ فَهُمَا شَهِدَا بِحَقٍّ ثُمَّ شَهِدَا بِحَقٍّ آخَرَ فَتُقْبَلُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَتَجُوزُ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ) أَوْ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ (عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ) يَعْنِي إذَا شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ كُلٍّ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ فَيَكُونُ لَهُمَا شَهَادَتَانِ شَهَادَتُهُمَا مَعًا عَلَى شَهَادَةِ هَذَا وَشَهَادَتُهُمَا أَيْضًا عَلَى شَهَادَةِ الْآخَرِ.
أَمَّا لَوْ شَهِدَا عَلَى شَهَادَتِهِمَا بِمَعْنَى شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ أَصْلٍ وَالْآخَرُ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى قول مَالِكٍ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا لَكِنْ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
وَفِي الْجُمْلَةِ أَنَّ عَلَى قول أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْعَنْبَرِيِّ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَإِسْحَاقَ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ، لِأَنَّ الْفَرْعَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَصْلِ بِمَنْزِلَةِ رَسُولِهِ فِي إيصَالِ شَهَادَتِهِ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَكَأَنَّهُ شَهِدَ بِنَفْسِهِ وَاعْتَبَرُوهُ بِرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ (وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا تَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ) ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ غَرِيبٌ.
وَاَلَّذِي فِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى الْأَسْلَمِيُّ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَا تَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ الْمَيِّتِ إلَّا رَجُلَانِ.
وَأَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إسْمَاعِيلَ الْأَزْرَقِ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ عَلَى الشَّاهِدِ حَتَّى يَكُونَا اثْنَيْنِ، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ كُلٍّ مِنْ الْأَصْلَيْنِ هِيَ الْمَشْهُودُ بِهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَى كُلِّ مَشْهُودٍ بِهِ شَاهِدَانِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ شَاهِدَةٌ مَعَ الْأُصُولِ لَا يَجُوزُ عَلَى شَهَادَتِهَا إلَّا رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قوليْهِ: لَا تَجُوزُ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيّ لِأَنَّ الْفَرْعَيْنِ يَقُومَانِ مَقَامَ أَصْلٍ وَاحِدٍ كَالْمَرْأَتَيْنِ، وَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِهِمَا كَالْمَرْأَتَيْنِ لَمَّا قَامَتَا مَقَامَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ لَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهِمَا، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ كَانَ أَصْلًا فَشَهِدَ شَهَادَةً ثُمَّ شَهِدَ مَعَ فَرْعٍ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الْآخَرِ لَا تَجُوزُ اتِّفَاقًا، فَكَذَا إذَا شَهِدَا جَمِيعًا عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلَيْنِ.
وَفِي قول آخَرَ لِلشَّافِعِيِّ تَجُوزُ كَقولنَا، وَهُوَ قول مَالِكٍ وَأَحْمَدَ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قول عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ يَنْتَظِمُ مَحَلَّ النِّزَاعِ، وَلِأَنَّ حَاصِلَ أَمْرِهِمَا أَنَّهُمَا شَهِدَا بِحَقٍّ هُوَ شَهَادَةُ أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ، ثُمَّ شَهِدَ بِحَقٍّ آخَرَ هُوَ شَهَادَةُ الْأَصْلِ الْآخَرِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ بِحُقُوقٍ كَثِيرَةٍ، بِخِلَافِ أَدَاءِ الْأَصْلِ بِشَهَادَةِ نَفْسِهِ ثُمَّ بِشَهَادَتِهِ عَلَى الْأَصْلِ الْآخَرِ مَعَ آخَرَ، فَإِنَّهُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ فِيهِ يَجْتَمِعُ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ بِهِ وَشَهِدَ اثْنَانِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الْآخَرِ حَيْثُ يَجُوزُ.

متن الهداية:
(وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ) لِمَا رَوَيْنَا، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ فَلَا بُدَّ مِنْ نِصَابِ الشَّهَادَةِ.
الشَّرْحُ:
وَقولهُ (وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ) فِيهِ نَظَرٌ، إذْ كُتُبُهُمْ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ عَلَى الْأَصْلِ لَا تَجُوزُ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رِوَايَةً عَنْهُ، وَإِنَّمَا نَقَلَ هَذَا عَمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْجُمْلَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْفَرْعَ كَرَسُولٍ، وَكَرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ.
وَيَدْفَعُهُ مَا ذَكَرْنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ حَقٌّ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِاثْنَيْنِ.
وَذَكَرَ فِي الْمُسْتَوْعَبِ لِلْحَنَابِلَةِ عَنْ أَحْمَدَ: لَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعَةِ فُرُوعٍ لِيَشْهَدَ كُلُّ فَرَعَيْنَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْلَيْنِ.

متن الهداية:
(وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقول شَاهِدُ الْأَصْلِ لِشَاهِدِ الْفَرْعِ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ) لِأَنَّ الْفَرْعَ كَالنَّائِبِ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ وَالتَّوْكِيلِ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ كَمَا يَشْهَدُ عِنْدَ الْقَاضِي لِيَنْقُلَهُ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ (وَإِنْ لَمْ يَقُلْ أَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ جَازَ) لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ إقْرَارَ غَيْرِهِ حَلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ اشْهَدْ (وَيَقول شَاهِدُ الْفَرْعِ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا وَقَالَ لِي اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شَهَادَتِهِ، وَذِكْرِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ وَذِكْرِ التَّحْمِيلِ، وَلَهَا لَفْظٌ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا وَأَقْصَرُ مِنْهُ وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ) أَيْ إشْهَادُ شَاهِدِ الْأَصْلِ شَاهِدَ الْفَرْعِ (أَنْ يَقول شَاهِدُ الْأَصْلِ لَهُ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ) وَإِنَّمَا شَرَطَ إشْهَادَ الْأَصْلِ الْفَرْعَ فِي شَهَادَةِ الْفَرْعِ (لِأَنَّهُ كَالنَّائِبِ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِنَابَةِ) وَذَلِكَ بِالتَّحْمِيلِ، بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ تَجُوزُ عَلَى الْمُقِرِّ وَإِنْ لَمْ يَحْمِلْهُ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ شَاهَدَ أَمْرًا غَيْرَ الشَّهَادَةِ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ كَالْإِقْرَارِ وَالْبَيْعِ وَالْغَصْبِ (عَلَى مَا مَرَّ) يَعْنِي فِي فَصْلِ مَا يَتَحَمَّلُهُ الشَّاهِدُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ لِأَنَّهُ نَائِبُهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةَ النَّائِبِ لَمْ يَجُزْ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ فَرْعَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ أَصْلٍ وَأَصْلُ الِامْتِنَاعِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ لَكِنَّهُ جَائِزٌ.
وَقولهُ (وَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ) أَيْ شَاهِدُ الْأَصْلِ عِنْدَ الْفَرْعِ (كَمَا يَشْهَدُ) شَاهِدُ الْأَصْلِ (عِنْدَ الْقَاضِي لِيَنْقُلَهُ الْفَرْعُ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ) شَاهِدُ الْأَصْلِ فِي شَهَادَتِهِ عِنْدَ الْفَرْعِ.
قولهُ (وَأَشْهَدَنِي) يَعْنِي الْمُقِرَّ (عَلَى نَفْسِهِ) بِذَلِكَ (جَازَ) لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ الْفَرْقِ.
وَإِذَا وَقَعَ التَّحْمِيلُ بِمَا ذُكِرَ (فَيَقول شَاهِدُ الْفَرْعِ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ) وَيُعَرِّفُهُ (أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا وَقَالَ لِي اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ) فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْفَرْعِ جَرَّ شَاهِدِ الْأَصْلِ فَلَزِمَ فِيهِ خَمْسُ شِينَاتٍ، وَذَلِكَ (لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْفَرْعِ مِنْ شَهَادَتِهِ وَذِكْرِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ وَالتَّحْمِيلِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَهَا) أَيْ لِشَهَادَةِ الْأَدَاءِ مِنْ الْفَرْعِ (لَفْظٌ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا وَأَقْصَرُ) أَمَّا الْأَطْوَلُ فَأَنْ يَقول: أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا شَهِدَ عِنْدِي أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ وَأَمَرَنِي أَنْ أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَأَنَا الْآنَ أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ فَيَلْزَمُ ثَمَانُ شِينَاتٍ، وَأَمَّا الْأَقْصَرُ فَأَنْ يَقول الْفَرْعُ أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ فُلَانٍ بِأَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا فَفِيهِ شِينَانِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ وَأُسْتَاذِهِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَحَكَى فَتْوَى شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ بِهِ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي السَّيْرِ الْكَبِيرِ وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ.
وَحُكِيَ أَنَّ فُقَهَاءَ زَمَنِ أَبِي جَعْفَرٍ خَالَفُوا وَاشْتَرَطُوا زِيَادَةَ تَطْوِيلٍ، فَأَخْرَجَ أَبُو جَعْفَرٍ الرِّوَايَةَ مِنْ السَّيْرِ الْكَبِيرِ فَانْقَادُوا لَهُ.
قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: فَلَوْ اعْتَمَدَ أَحَدٌ عَلَى هَذَا كَانَ أَسْهَلَ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ الْمُشْتَمِلِ عَلَى خَمْسِ شِينَاتٍ حَيْثُ حَكَاهُ، وَذَكَرَ أَنَّ ثَمَّ أَطْوَلَ مِنْهُ وَأَقْصَرَ، ثُمَّ قَالَ: (وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا) وَذَكَرَ أَبُو نَصْرٍ الْبَغْدَادِيُّ شَارِحُ الْقُدُورِيِّ أَقْصَرَ آخَرَ وَهُوَ ثَلَاثُ شِينَاتٍ.
قَالَ: وَيُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثِ لَفَظَاتٍ وَهُوَ أَنْ يَقول أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا، ثُمَّ قَالَ: وَمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْكِتَابِ: يَعْنِي الْقُدُورِيَّ أَوْلَى وَأَحْوَطُ.
ثُمَّ حَكَى خِلَافًا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَبَيْنَ أَبِي يُوسُفَ فِي أَنَّ قولهُ وَقَالَ لِي اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي شَرْطٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ.
قَالَ: وَجْهُ قولهِمَا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقُلْهُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ أَنْ يَشْهَدَ مِثْلَ شَهَادَتِهِ وَهُوَ كَذِبٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَمَرَهُ عَلَى وَجْهِ التَّحْمِيلِ فَلَا يَثْبُتُ الثَّانِي بِالشَّكِّ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ أَمْرَ الشَّاهِدِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ فَيُحْمَلُ لِذَلِكَ عَلَى التَّحْمِيلِ انْتَهَى.
وَالْوَجْهُ فِي شُهُودِ الزَّمَانِ الْقول بِقولهِمَا وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ الْعَارِفُ الْمُتَدَيِّنُ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ خُصُوصًا الْمُتَّخِذَ بِهَا مَكْسَبَةً لِلدَّرَاهِمِ، وَقولهُمْ فِي إعْطَاءِ الصُّوَرِ: أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ فُلَانٍ وَنَحْوُهَا الْمُرَادُ مِنْهُ التَّمْثِيلُ، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ شَاهِدَ الْأَصْلِ.
قَالَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى: شُهُودُ الْفَرْعِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَذْكُرُوا أَسْمَاءَ الْأُصُولِ وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ حَتَّى لَوْ قَالَا نَشْهَدُ أَنَّ رَجُلَيْنِ نَعْرِفُهُمَا أَشْهَدَانَا عَلَى شَهَادَتِهِمَا أَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِكَذَا وَقَالَا لَا نُسَمِّيهِمَا.
أَوْ لَا نَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمَا لَمْ تُقْبَلْ لِأَنَّهُمَا تَحَمَّلَا مُجَازَفَةً لَا عَنْ مَعْرِفَةِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَالَ أَشْهَدَنِي: فُلَانٌ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَشْهَدْ السَّامِعُ عَلَى شَهَادَتِهِ حَتَّى يَقول لَهُ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عِنْدَهُ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ جَمِيعًا حَتَّى اشْتَرَكُوا فِي الضَّمَانِ عِنْدَ الرُّجُوعِ، وَكَذَا عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ لِيَصِيرَ حُجَّةً فَيَظْهَرَ تَحْمِيلُ مَا هُوَ حُجَّةٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ قَالَ أَشْهَدَنِي إلَخْ) أَيْ إذَا قَالَ شَاهِدٌ عِنْدَ آخَرَ أَشْهَدَنِي فُلَانٌ عَلَى نَفْسِهِ بِكَذَا لَا يَسَعُ السَّامِعَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ حَتَّى يَقول لَهُ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ.
وَوَجَّهَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ.
أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّهُ يَقول بِاشْتِرَاكِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِي الضَّمَانِ إذَا رَجَعُوا، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ مُحَمَّدًا يُخَيِّرُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بَيْنَ تَضْمِينِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا يُعْطِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ مِنْ أَنَّهُ يُضَمِّنُ الْكُلَّ مَعًا، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْفُرُوعِ لَا يَرْجِعُونَ عَلَى الْأُصُولِ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ يَتَخَيَّرُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ فِي تَضْمِينِ أَيِّهِمَا شَاءَ، فَإِنْ ضَمِنَ الْغَاصِبُ رَجَعَ عَلَى غَاصِبِهِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا قَالَ فَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّحْمِيلِ (لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ النَّقْلِ) يَعْنِي إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي (لِيَصِيرَ حُجَّةً فَيَظْهَرَ) بِالنَّقْلِ (تَحْمِيلُ مَا هُوَ حُجَّةٌ) يَعْنِي شَهَادَةَ الْأُصُولِ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي أَنَّ وُجُوبَ التَّحْمِيلِ لِوُجُوبِ النَّقْلِ، وَالنَّقْلُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالتَّحْمِيلِ، حَتَّى لَوْ سَمِعَ شَاهِدًا يَقول لِرَجُلٍ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي إلَى آخِرِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَمَلَ غَيْرُهُ بِحَضْرَتِهِ، فَإِذَا نَقَلَ ظَهَرَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ وُجِدَ الشَّرْطُ وَهُوَ التَّحْمِيلُ فَتَثْبُتُ عِنْدَهُ الْحُجَّةُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ سَمِعَ قَاضِيًا يَقول لِآخَرَ قَضَيْت عَلَيْك بِكَذَا أَوْ عَلَى فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى قَضَائِهِ بِلَا تَحْمِيلٍ لِأَنَّ قَضَاءَهُ حُجَّةٌ كَالْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ لَيْسَتْ نَفْسُهَا حُجَّةً حَتَّى تَصِلَ إلَى الْقَاضِي.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقول: كَوْنُ النَّقْلِ إلَى الْقَاضِي وَالْحُجِّيَّةُ تَتَوَقَّفُ عَلَى التَّحْمِيلِ شَرْعًا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَإِلَّا فَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَمِعَ إقْرَارَ رَجُلٍ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمَا سَمِعَ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْهُ، بَلْ وَلَوْ مَنَعَهُ مِنْ الشَّهَادَةِ بِمَا سَمِعَ مِنْهُ فَإِخْرَاجُ الْإِقْرَارِ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ بِشَهَادَتِهِ عَلَى فُلَانٍ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ مِنْ الشَّرْعِ.
وَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ فِي وَجْهِهِ أَمْرًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ لَهُ مَنْفَعَةُ فِي نَقْلِ شَهَادَتِهِ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ إذَا طَلَبَ مِنْهُ مَنْ هِيَ لَهُ؛ وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يَحْتَاجَ إلَى التَّوْكِيلِ وَالتَّحْمِيلِ لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ إذَا تَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ لَكِنْ فِيهَا مَضَرَّةُ إهْدَارِ وِلَايَتِهِ فِي تَنْفِيذِ قولهِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرِهِ وَرِضَاهُ فَيُشْتَرَطُ كَمَنْ لَهُ وِلَايَةُ إنْكَاحِ صَغِيرَةٍ لَوْ نَكَحَهَا إنْسَانٌ لَا بِأَمْرِهِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ إلَّا أَنْ يَمُوتَ شُهُودُ الْأَصْلِ أَوْ يَغِيبُوا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا أَوْ يَمْرَضُوا مَرَضًا لَا يَسْتَطِيعُونَ مَعَهُ حُضُورَ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ) لِأَنَّ جَوَازَهَا لِلْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا تُمَسُّ عِنْدَ عَجْزِ الْأَصْلِ وَبِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ.
وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا السَّفَرَ لِأَنَّ الْمُعْجِزَ بُعْدُ الْمَسَافَةِ وَمُدَّةُ السَّفَرِ بَعِيدَةٌ حُكْمًا حَتَّى أُدِيرَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مِنْ الْأَحْكَامِ فَكَذَا سَبِيلُ هَذَا الْحُكْمِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَكَان لَوْ غَدَا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبِيتَ فِي أَهْلِهِ صَحَّ الْإِشْهَادُ إحْيَاءً لِحُقُوقِ النَّاسِ، قَالُوا: الْأَوَّلُ أَحْسَنُ وَالثَّانِي أَرْفَقُ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ إلَّا أَنْ يَمُوتَ شُهُودُ الْأَصْلِ أَوْ يَغِيبُوا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) وَلَيَالِيِهَا (فَصَاعِدًا أَوْ يَمْرَضُوا مَرَضًا لَا يَسْتَطِيعُونَ مَعَهُ حُضُورَ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ لِأَنَّ جَوَازَهَا لِلْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا تُمَسُّ عِنْدَ عَجْزِ الْأَصْلِ وَبِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا السَّفَرَ لِأَنَّ الْمُعْجِزَ بُعْدُ الْمَسَافَةِ) فَقُدِّرَتْ بِمَسَافَةٍ اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ بَعِيدَةً حَتَّى أَثْبَتَ رُخَصًا عِنْدَهَا مِنْ الْفِطْرِ وَالْقَصْرِ وَامْتِدَادِ مَسْحِ الْخُفِّ وَعَدَمِ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ وَالْجُمُعَةِ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي مَكَان لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبِيتَ فِي أَهْلِهِ لَوْ غَدَا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ صَحَّ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ إحْيَاءً لِحُقُوقِ النَّاسِ، قَالُوا: الْأَوَّلُ أَحْسَنُ) يَعْنِي مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ لِمُوَافَقَتِهِ لِحُكْمِ الشَّرْعِ (وَالثَّانِي أَرْفَقُ إحْيَاءً لِحُقُوقِ النَّاسِ) وَفِي الذَّخِيرَةِ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ أَخَذُوا بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ (وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ) وَذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي السَّيْرِ الْكَبِيرِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ: تَجُوزُ الشَّهَادَةُ كَيْفَمَا كَانَ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي زَاوِيَةِ الْمَسْجِدِ فَشَهِدَ الْفَرْعُ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى تُقْبَلُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُ: يَجِبُ أَنْ تَجُوزَ عَلَى قولهِمَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ يَجُوزُ عِنْدَهُمَا بِلَا رِضَا الْخَصْمِ، وَعِنْدَهُ لَا إلَّا بِرِضَاهُ وَإِلَّا قُطِعَ، صَرَّحَ بِهِ عَنْهُمَا فَقَالَ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تُقْبَلُ وَإِنْ كَانُوا فِي الْمِصْرِ.
فُرُوعٌ:
خَرِسَ الْأَصْلَانِ أَوْ عَمِيَا أَوْ جُنَّا أَوْ ارْتَدَّا وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِسْقًا لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الِابْنِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَبِ دُونَ قَضَائِهِ فِي رِوَايَةٍ، وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ فِيهِمَا: وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ وَآخَرَانِ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ صَحَّ، وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِي النَّسَبِ وَكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي.
وَفِي الْأَصْلِ: لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْحَقِّ فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْأَصْلِ الْحَاضِرِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الْغَائِبِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، لِأَنَّهَا لَوْ قُبِلَتْ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الْأَصْلِ الْحَاضِرِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ نِصْفُهُ بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ وَرُبْعُهُ بِشَهَادَتِهِ مَعَ آخَرَ عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلِ الْغَائِبِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ.
وَلَمْ يَزِدْ فِي شَرْحِ الشَّافِي عَلَى تَعْلِيلِهِ بِأَنَّ شَهَادَتَهُ بِشَهَادَةِ نَفْسِهِ أَصْلٌ وَشَهَادَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ بَدَلٌ وَلَا يَجْتَمِعَانِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ وَآخَرَانِ عَلَى شَهَادَةِ آخَرَ يَصِحُّ.
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَقْضِ بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى حَضَرَ الْأَصْلَانِ وَنَهَيَا الْفُرُوعَ عَنْ الشَّهَادَةِ صَحَّ النَّهْيُ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِحُّ، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ.
وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَثُرُوا.
سَمِعَا قول حَاكِمٍ حَكَمْت بِكَذَا عَلَى هَذَا ثُمَّ نُصِّبَ حَاكِمٌ غَيْرُهُ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا أَنَّ الْقَاضِيَ قَضَى عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَا سَمِعَا مِنْ الْقَاضِي فِي الْمِصْرِ أَوْ سَوَادِهِ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْأَقْيَسُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ إنْ سَمِعَاهُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي، وَهَذَا أَحْوَطُ.

متن الهداية:
قَالَ: (فَإِنْ عَدَّلَ شُهُودَ الْأَصْلِ شُهُودُ الْفَرْعِ جَازَ) لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ (وَكَذَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ فَعَدَّلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ صَحَّ) لِمَا قُلْنَا، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً مِنْ حَيْثُ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ لَكِنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ كَمَا لَا يُتَّهَمُ فِي شَهَادَةِ نَفْسِهِ، كَيْفَ وَأَنَّ قولهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ رُدَّتْ شَهَادَةُ صَاحِبِهِ فَلَا تُهْمَةَ.
قَالَ: (وَإِنْ سَكَتُوا عَنْ تَعْدِيلِهِمْ جَازُوا نَظَرَ الْقَاضِي فِي حَالِهِمْ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ إلَّا بِالْعَدَالَةِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفُوهَا لَمْ يَنْقُلُوا الشَّهَادَةَ فَلَا يُقْبَلُ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِمْ النَّقْلُ دُونَ التَّعْدِيلِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ، وَإِذَا نَقَلُوا يَتَعَرَّفُ الْقَاضِي الْعَدَالَةَ كَمَا إذَا حَضَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَشَهِدُوا قَالَ: (وَإِنْ أَنْكَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الشُّهُودِ الْفَرْعِ) لِأَنَّ التَّحْمِيلَ لَمْ يَثْبُتْ لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ وَهُوَ شَرْطٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَإِنْ عَدَّلَ شُهُودَ الْأَصْلِ إلَخْ) شُهُودَ الْأَصْلِ مَنْصُوبٌ مَفْعُولًا وَشُهُودُ الْفَرْعِ فَاعِلٌ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا شَهِدَ الْفَرْعَانِ فَإِنْ عَلِمَ الْقَاضِي عَدَالَةَ كُلٍّ مِنْ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ قُضِيَ بِمُوجِبِ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عَدَالَةَ الْأُصُولِ وَعَلِمَ عَدَالَةَ الْفُرُوعِ سَأَلَ الْفُرُوعَ عَنْ عَدَالَةِ الْأُصُولِ فَإِنْ عَدَّلُوهُمْ جَازَ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ فَتُقْبَلُ (وَكَذَا لَوْ شَهِدَا اثْنَانِ فَعَدَّلَ أَحَدُهُمَا) وَهُوَ مَعْلُومُ الْعَدَالَةِ لِلْقَاضِي (الْآخِرَ جَازَ) خِلَافًا لِقول بَعْضِ الْمَشَايِخِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي ذَلِكَ حَيْثُ كَانَ بِتَعْدِيلِهِ رَفِيقَهُ يَثْبُتُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ، وَذَلِكَ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقولهِ (غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً إلَى آخِرِهِ، لَكِنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ كَمَا لَا يُتَّهَمُ فِي شَهَادَةِ نَفْسِهِ) يَعْنِي أَنَّ شَهَادَةَ نَفْسِهِ تَتَضَمَّنُ مِثْلَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ الْقَضَاءُ بِهَا، فَكَمَا أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِر الشَّرْعُ مَعَ عَدَالَتِهِ ذَلِكَ مَانِعًا كَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ (وَإِنْ سَكَتُوا) أَيْ الْفُرُوعُ عَنْ تَعْدِيلِ الْأُصُولِ حِينَ سَأَلَهُمْ الْقَاضِي (جَازَتْ) شَهَادَةُ الْفُرُوعِ (وَنَظَرَ الْقَاضِي) فِي حَالِ الْأُصُولِ، فَإِنْ عَدَّلَهُمْ غَيْرُهُمْ قَضَى وَإِلَّا لَا (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ) إذَا سَكَتُوا أَوْ قَالُوا لَا نَعْرِفُ عَدَالَتَهُمْ (لَا تُقْبَلُ) شَهَادَةُ الْفُرُوعِ لِأَنَّ قَبُولَهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا نَقْلُ شَهَادَةٍ وَلَمْ تَثْبُتْ شَهَادَةُ الْأُصُولِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ (وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ) أَيْ الْوَاجِبَ (عَلَى الْفُرُوعِ لَيْسَ إلَّا نَقْلُ) مَا حَمَلَهُمْ الْأُصُولُ (دُونَ تَعْدِيلِهِمْ) فَإِنَّهُ قَدْ يَخْفَى حَالُهُمْ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ إذَا نَقَلُوا مَا حَمَلُوهُمْ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَتَعَرَّفَ حَالَهُمْ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ وَصَارَ كَمَا لَوْ حَضَرَ الْأُصُولُ بِنَفْسِهِمْ وَشَهِدُوا وَحِينَئِذٍ ظَهَرَ أَنْ لَيْسَ سُؤَالُ الْقَاضِي الْفُرُوعَ عَنْ الْأُصُولِ لَازِمًا عَلَيْهِ بَلْ الْمَقْصُودُ أَنْ يَتَعَرَّفَ حَالَهُمْ غَيْرَ أَنَّ الْفُرُوعَ حَاضِرُونَ وَهُمْ أَهْلُ التَّزْكِيَةِ إنْ كَانُوا عُدُولًا فَسُؤَالُهُمْ أَقْرَبُ لِلْمَسَافَةِ مِنْ سُؤَالِ غَيْرِهِمْ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ فَقَدْ قَصُرَتْ الْمَسَافَةُ وَإِلَّا احْتَاجَ إلَى تَعَرُّفِ حَالِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ، كَذَا ذَكَرَ الْخِلَافَ النَّاصِحِيُّ فِي تَهْذِيبِ أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ وَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ.
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِيمَا إذَا قَالَ الْفُرُوعُ حِينَ سَأَلَهُمْ الْقَاضِي عَنْ عَدَالَةِ الْأُصُولِ لَا نُخْبِرُك بِشَيْءٍ لَمْ تَقْبَلْ شَهَادَتَهُمَا: أَيْ الْفُرُوعِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، لِأَنَّ هَذَا ظَاهِرٌ فِي الْجَرْحِ كَمَا لَوْ قَالُوا نَتَّهِمُهُمْ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ جَرْحًا.
لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ تَوْقِيفًا فِي حَالِهِمْ فَلَا يَثْبُتُ جَرْحًا بِالشَّكِّ انْتَهَى.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تُقْبَلُ وَيُسْأَلُ غَيْرُهُمَا.
وَلَوْ قَالَا: لَا نَعْرِفُ عَدَالَتَهُمَا وَلَا عَدَمَهَا، فَكَذَا الْجَوَابُ فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ السُّغْدِيُّ.
وَذَكَرَ الْحَلْوَانِيُّ أَنَّهَا تُقْبَلُ وَيَسْأَلُ عَنْ الْأُصُولِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقِيَ مَسْتُورًا فَيُسْأَلُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي عَدْلٍ أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ شَاهِدَيْنِ ثُمَّ غَابَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً نَحْوَ عِشْرِينَ سَنَةً وَلَا يُدْرَى أَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ أَمْ لَا؟ فَشَهِدَا عَلَى تِلْكَ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَجِدْ الْحَاكِمُ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ حَالِهِ، إنْ كَانَ الْأَصْلُ مَشْهُورًا كَأَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَضَى بِشَهَادَتِهِمَا عَنْهُ لِأَنَّ عَثْرَةَ الْمَشْهُورِ يُتَحَدَّثُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَشْهُورٍ لَا يَقْضِي بِهِ، وَلَوْ أَنَّ فَرَعَيْنَ مَعْلُومًا عَدَالَتُهُمَا شَهِدَا عَنْ أَصْلٍ وَقَالَا لَا خَيْرَ فِيهِ وَزَكَّاهُ غَيْرُهُمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا لَا يُلْتَفَتُ إلَى جَرْحِهِ.
وَفِي التَّتِمَّةِ: إذَا شَهِدَ أَنَّهُ عَدْلٌ لَيْسَ فِي الْمِصْرِ مَنْ يَعْرِفُهُ، فَإِنْ كَانَ لَيْسَ مَوْضِعٌ لِلْمَسْأَلَةِ: يَعْنِي بِأَنْ تُخْفَى فِيهِ الْمَسْأَلَةُ سَأَلَهُمَا عَنْهُ أَوْ بَعَثَ مَنْ يَسْأَلُهُمَا عَنْهُ سِرًّا، فَإِنْ عَدَّلَاهُ قُبِلَ وَإِلَّا اكْتَفَى بِمَا أَخْبَرَاهُ عَلَانِيَةً.
قولهُ: (وَإِنْ أَنْكَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ) لِأَنَّ إنْكَارَهُمَا الشَّهَادَةَ إنْكَارٌ لِلتَّحْمِيلِ وَهُوَ شَرْطٌ فِي الْقَبُولِ فَوَقَعَ فِي التَّحْمِيلِ تَعَارُضُ خَبَرِهِمَا بِوُقُوعٍ، وَخَبَرُ الْأُصُولِ بِعَدَمِهِ وَلَا ثُبُوتَ مَعَ التَّعَارُضِ.

متن الهداية:
(وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَلَى فُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَا أَخْبَرَانَا أَنَّهُمَا يَعْرِفَانِهَا فَجَاءَ بِامْرَأَةٍ وَقَالَا: لَا نَدْرِي أَهِيَ هَذِهِ أَمْ لَا فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْمُدَّعِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهَا فُلَانَةُ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِالنِّسْبَةِ قَدْ تَحَقَّقَتْ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْحَقَّ عَلَى الْحَاضِرَةِ وَلَعَلَّهَا غَيْرُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهَا بِتِلْكَ النِّسْبَةِ، وَنَظِيرُ هَذَا إذَا تَحَمَّلُوا الشَّهَادَةَ بِبَيْعٍ مَحْدُودَةً بِذِكْرِ حُدُودِهَا وَشَهِدُوا عَلَى الْمُشْتَرِي لَا بُدَّ مِنْ آخَرَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى أَنَّ الْمَحْدُودَ بِهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الْحُدُودَ الْمَذْكُورَةَ فِي الشَّهَادَةِ حُدُودُ مَا فِي يَدِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَلَى فُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ) هَكَذَا عِبَارَةُ الْجَامِعِ وَتَمَامُهُ فِيهِ.
فَيَقولانِ قَدْ أَخْبَرَانَا أَنَّهُمَا يَعْرِفَانِهَا وَيَجِيئَانِ بِامْرَأَةٍ فَيَقولانِ لَا نَدْرِي هِيَ هَذِهِ أَمْ لَا؟ قَالَ: يُقَالُ لِلْمُدَّعِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهَا فُلَانَةُ الْفُلَانِيَّةُ بِعَيْنِهَا فَأُجِيزُ الشَّهَادَةَ.
وَالْمُصَنِّفُ أَفْرَدَ فَقَالَ: (فَجَاءَ بِامْرَأَةٍ) يَعْنِي الْمُدَّعِيَ جَاءَ بِهَا وَهُوَ أَنْسَبُ وَهَذَا (لِأَنَّ الشَّهَادَةَ) بِالْأَلْفِ (عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِالنِّسْبَةِ قَدْ تَحَقَّقَتْ) بِالشَّهَادَةِ الْمَذْكُورَةِ لِلْفُرُوعِ (وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي) الْأَلْفَ (عَلَى حَاضِرِهِ جَازَ كَوْنُهَا غَيْرَهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ الْحَاضِرَةِ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ) الَّتِي بِهَا شَهِدَا بِالْأَلْفِ عَلَيْهَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَنَظِيرُ هَذَا إذَا تَحَمَّلُوا شَهَادَةً بِبَيْعٍ مَحْدُودَةً) قَالَ قَاضِي خَانْ: وَهَذَا كَرَجُلَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّ فُلَانًا اشْتَرَى دَارًا فِي بَلَدِ كَذَا بِحُدُودِ كَذَا وَلَا يَعْرِفَانِ الدَّارَ بِعَيْنِهَا يُقَالُ لِلْمُدَّعِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ الْمَحْدُودَةَ بِهَذِهِ الْحُدُودِ فِي يَدِ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِيَصِحَّ الْقَضَاءُ.
وَهَذَا التَّصْوِيرُ أَوْفَقُ بِالْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ: تَحَمَّلُوا الشَّهَادَةَ بِبَيْعٍ مَحْدُودٍ.
وَذَكَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَصَارَ كَرَجُلٍ ادَّعَى مَحْدُودًا فِي يَدِ رَجُلٍ وَشَهِدَ شُهُودُهُ أَنَّ هَذَا الْمَحْدُودَ الْمَذْكُورَ بِهَذِهِ الْحُدُودِ مِلْكُهُ وَفِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي فِي يَدِي غَيْرُ مَحْدُودٍ بِهَذِهِ الْحُدُودِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشُّهُودُ يُقَالُ لِلْمُدَّعِي هَاتِ شَاهِدَيْنِ أَنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ مَحْدُودٌ بِهَذِهِ الْحُدُودِ.
ثُمَّ تَصْوِيرُ الْمُصَنِّفِ يَصْدُقُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي شَفِيعًا وَالْمَحْدُودُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَادَّعَاهُ لِطَلَبِ الشُّفْعَةِ فَقَالَ الْمُشْتَرِي الْعَيْنُ الَّذِي فِي يَدِي بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ لَيْسَ بِهَذِهِ الْحُدُودِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَكَذَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ لِكَمَالِ دِيَانَتِهِ وَوُفُورِ وِلَايَتِهِ يَنْفَرِدُ بِالنَّقْلِ (وَلَوْ قَالُوا فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ التَّمِيمِيَّةُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْسُبُوهَا إلَى فَخِذِهَا) وَهِيَ الْقَبِيلَةُ الْخَاصَّةُ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي هَذَا، وَلَا يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَامَّةِ وَهِيَ عَامَّةٌ إلَى بَنِي تَمِيمٍ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يُحْصَوْنَ وَيَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَخِذِ لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ.
وَقِيلَ الْفَرْغَانِيَّةُ نِسْبَةٌ عَامَّةٌ وَالْأُوزَجَنْدِيَّةُ خَاصَّةٌ، (وَقِيلَ السَّمَرْقَنْدِيَّة وَالْبُخَارِيَّةُ عَامَّةٌ) وَقِيلَ إلَى السِّكَّةِ الصَّغِيرَةِ خَاصَّةٌ، وَإِلَى الْمَحَلَّةِ الْكَبِيرَةِ وَالْمِصْرِ عَامَّةٌ.
ثُمَّ التَّعْرِيفُ وَإِنْ كَانَ يَتِمُّ بِذِكْرِ الْجَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ، فَذِكْرُ الْفَخِذِ يَقُومُ مَقَامَ الْجَدِّ لِأَنَّهُ اسْمُ الْجَدِّ الْأَعْلَى فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْجَدِّ الْأَدْنَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (قَالَ) يَعْنِي مُحَمَّدًا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَكَذَلِكَ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي) فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ قولهِ فَأُجِيزُ الشَّهَادَةَ، وَكَذَلِكَ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ (إنْ قَالَا فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ التَّمِيمِيَّةُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْسِبَاهَا إلَى فَخْذِهَا) إلَى هُنَا لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: يَعْنِي أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا كَتَبَ فِي كِتَابِهِ إلَى الْقَاضِي الْآخَرِ أَنَّ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ شَهِدَا عِنْدِي أَنَّ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ عَلَى فُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَاقْضِ عَلَيْهَا بِذَلِكَ فَأَحْضَرَ الْمُدَّعِي امْرَأَةً فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَقَالَ هِيَ هَذِهِ يَقول لَهُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ هَاتِ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّ الَّتِي أَحْضَرْتهَا هِيَ فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْكِتَابِ لِتُمْكِنَ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا فِي الْقَضَاءِ عَلَيْهَا.
وَقولهُ (إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ قول الْقَاضِي وَحْدَهُ لِأَنَّهُ كَشَاهِدِ الْفَرْعِ شَهِدَ عَلَى الْأُصُولِ بِمَا شَهِدُوا بِهِ فَقَالَ إنَّ لِلْقَاضِي زِيَادَةَ وَفَوْرِ وِلَايَةٍ لَيْسَتْ لِلشُّهُودِ فَقَامَتْ تِلْكَ مَعَ دِيَانَتِهِ مَقَامَ قول الِاثْنَيْنِ فَانْفَرَدَ بِالنَّقْلِ.
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: قَالَ: وَلَوْ قَالُوا فِي هَذَيْنِ فَلَفْظُ قَالَ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قول الْمُصَنِّفِ نَقْلًا لِلَفْظِ الْجَامِعِ عَلَى مَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا: أَيْ قَالَ فِي الْجَامِعِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ قَالَا فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ: أَيْ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي هِيَ فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ التَّمِيمِيَّةُ لَمْ يَكْفِ حَتَّى يَنْسِبُوهَا إلَى فَخْذِهَا، يُرِيدُ الْقَبِيلَةَ الْخَاصَّةَ الَّتِي لَيْسَ مَنْ دُونَهَا أَخَصُّ مِنْهَا، وَهَذَا عَلَى أَحَدِ قوليْ اللُّغَوِيِّينَ وَهُوَ فِي الصِّحَاحِ.
وَفِي الْجَمْهَرَةِ جَعَلَ الْفَخْذَ دُونَ الْقَبِيلَةِ وَفَوْقَ الْبَطْنِ وَأَنَّهُ بِتَسْكِينِ الْخَاءِ وَالْجَمْعُ أَفْخَاذٌ، وَجَعَلَهُ فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَأَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ الْبَطْنِ وَكَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَالزُّبَيْرُ فَقَالَ: وَالْعَرَبُ عَلَى سِتِّ طَبَقَاتٍ: شَعْبٌ، وَقَبِيلَةٌ، وَعِمَارَةٌ، وَبَطْنٌ، وَفَخْذٌ، وَفَصِيلَةٌ؛ فَالشَّعْبُ تَجْمَعُ الْقَبَائِلَ، وَالْقَبِيلَةُ تَجْمَعُ الْعَمَائِرَ، وَالْعِمَارَةُ تَجْمَعُ الْبُطُونَ، وَالْبَطْنُ تَجْمَعُ الْأَفْخَاذَ وَالْفَخْذُ يَجْمَعُ الْفَصَائِلَ؛ فَمُضَرُ شَعْبٌ وَكَذَا رَبِيعَةُ وَمَذْحِجُ وَحِمْيَرُ، وَسُمِّيَتْ شُعُوبًا لِأَنَّ الْقَبَائِلَ تَتَشَعَّبُ مِنْهَا، وَكِنَانَةُ قَبِيلَةٌ، وَقُرَيْشٌ عِمَارَةُ، وَقُصَيٌّ بَطْنٌ، وَهَاشِمٌ فَخْذُ، وَالْعَبَّاسُ فَصِيلَةٌ.
وَعَلَى هَذَا فَلَا يَجُوزُ الِاكْتِفَاءُ بِالْفَخْذِ مَا لَمْ يَنْسُبْهَا إلَى الْفَصِيلَةِ لِأَنَّهَا دُونَهَا، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} وَقَدَّمْنَا فِي فَصْلِ الْكَفَاءَةِ مَنْ ذَكَرَ بَعْدَ الْفَصِيلَةِ الْعَشِيرَةَ.
وَالْعِمَارَةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَالشَّعْبُ بِفَتْحِ الشِّينِ، وَأَسْلَفْنَا هُنَاكَ ذِكْرَهَا مَنْظُومَةً فِي شَعْرٍ.
ثُمَّ إنَّمَا لَمْ يَكْتَفِ بِذِكْرِ نَحْوِ التَّمِيمِيَّةِ لِأَنَّهَا نِسْبَةٌ عَامَّةٌ فَلَا يَحْصُلُ بِهَا التَّعْرِيفُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِذِكْرِ ذَلِكَ.
وَنَقَلَ فِي الْفُصُولِ عَنْ قَاضِي خَانْ: إنْ حَصَلَ التَّعْرِيفُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَلَقَبِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الْجَدِّ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْصُلُ بِذِكْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لَا يَكْتَفِي بِذَلِكَ.
وَفِي الْفَصْلِ الْعَاشِرِ مِنْ فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ: رَأَيْت بِخَطِّ ثِقَةٍ: لَوْ ذَكَرَ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ وَفَخِذَهُ وَصِنَاعَتَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَدَّ تُقْبَلُ.
وَشَرْطُ التَّعْرِيفِ ذِكْرُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ.
فَعَلَى هَذَا لَوْ ذَكَرَ لَقَبَهُ وَاسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ هَلْ يَكْفِي؟ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكْفِي.
وَفِي اشْتِرَاطِ ذِكْرِ الْجَدِّ اخْتِلَافٌ، فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِدُونِ ذِكْرِ الْجَدِّ يَنْفُذُ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، قَالَ: كَذَا رَأَيْت فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ.
وَلَا يَخْفَى أَنْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّعْرِيفِ أَنْ يُنْسَبَ إلَى أَنْ يَعْرِفَهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَعْرِفُهُ، وَلَوْ نَسَبَهُ إلَى مِائَةِ جَدٍّ وَإِلَى صِنَاعَتِهِ وَمَحَلَّتِهِ بَلْ لِيَثْبُتَ بِذَلِكَ الِاخْتِصَاصُ وَيَزُولَ الِاشْتِرَاكُ، فَإِنَّهُ قَلَّمَا يَتَّفِقُ اثْنَانِ فِي اسْمِهِمَا وَاسْمِ أَبِيهِمَا وَجَدِّهِمَا أَوْ صِنَاعَتِهِمَا وَلَقَبِهِمَا، فَمَا ذُكِرَ عَنْ قَاضِي خَانْ مِنْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْرَفْ مَعَ ذِكْرِ الْجَدِّ لَا يَكْتَفِي بِذَلِكَ.
الْأَوْجَهُ مِنْهُ مَا نَقَلَ فِي الْفُصُولِ مِنْ أَنَّ شَرْطَ التَّعْرِيفِ ذِكْرُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، غَيْرَ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي اللَّقَبِ مَعَ الِاسْمِ هَلْ هُمَا وَاحِدٌ أَوْ لَا، وَنَظِيرُ مَا ذُكِرَ فِي النَّسَبِ مَا ذُكِرَ فِي النِّسْبَةِ إلَى الْبُلْدَانِ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُعْرَفُ لَهُ نِسْبَةٌ إلَى جَدٍّ مَشْهُورٍ مِثْلُ أَنْ يَقول الْفَرْغَانِيَّةُ وَكَذَا الْبَلْخِيَّةُ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو اللَّيْثِ (وَقِيلَ السَّمَرْقَنْدِيَّة وَالْبُخَارِيَّةُ عَامَّةٌ) بِخِلَافِ الْأُوزْجَنْديَّةِ (وَقِيلَ) فِي النِّسْبَةِ (إلَى السِّكَّةِ الصَّغِيرَةِ خَاصَّةٌ وَإِلَى الْمَحَلَّةِ الْكَبِيرَةِ وَالْمِصْرِ عَامَّةٌ) ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (ثُمَّ التَّعْرِيفُ وَإِنْ كَانَ يَتِمُّ بِذِكْرِ الْجَدِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ) فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ ذِكْرَ الْجَدِّ (عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ، فَذِكْرُ الْفَخِذِ يَقُومُ مَقَامَ الْجَدِّ لِأَنَّ الْفَخِذَ اسْمُ الْجَدِّ الْأَعْلَى) أَيْ الْجَدُّ الْأَعْلَى فِي ذَلِكَ الْفَخِذِ الْخَاصِّ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْجَدِّ الْخَاصِّ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِقول أَبِي حَنِيفَةَ الْمَنْقول فِي الْجَامِعِ: إنْ قَالَا فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ فُلَانَةُ التَّمِيمِيَّةُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْسُبَاهَا إلَى فَخِذِهَا، فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ فِيمَا إذَا قَالَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ جَدٍّ، فَعُلِمَ أَنَّ الْفُلَانِيَّةَ يَقُومُ مَقَامَ الْجَدِّ إذَا كَانَ نِسْبَةٌ إلَى أَخَصِّ الْآبَاءِ.